09/12/2011 Texte

pays

<< RETOUR

عام "التسونامي" العربي

هل ما جرى ويجري في العالم العربي منذ بداية السنة الجارية يمكن تصنيفه على أنه ثورات ذات أسباب قابلة للفهم، وتداعيات يمكن استشرافها في ضوء منطق التاريخ والسياسة، ووفق علاقات السببية التي تحتم عادة ترتيب النتائج على الأسباب؟ هل ما يجري فوضى إقليمية عارمة، أم أنه حقاً مد معبر عن حالة تحولات عميقة تمس دول الربيع العربي الخمس؟ وكم من الزمن يلزم النخب الصاعدة الجديدة في تلك الدول لكي تتمكن من الإمساك بزمام المبادرة وبناء أنماط من الحكم أكثر ديمقراطية، وقابلية للاستدامة السياسية؟ وفي انتظار ذلك ما هي المخاطر السياسية الماثلة وفي مقدمتها الحروب الأهلية، وغلو جماعات التطرف، ونشوب الصراعات الخارجة عن السيطرة، بكافة أشكالها وألوانها؟ وأخيراً على أي اتجاه ستسير استجابات الجيران الإقليميين الثلاثة للنظام الإقليمي العربي: تركيا، وإيران، وإسرائيل؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما يسعى للإجابة عليه كتاب: "التسونامي العربي" الصادر مؤخراً للكاتب الفرنسي- اللبناني أنطوان بصبوص، مدير ومؤسس مركز دراسات "مرصد البلدان العربية"، الذي يعتبر أحد أبرز المتخصصين في الشؤون العربية في بلاده فرنسا، كما أن مرصده يعتبر أيضاً بيت خبرة فكرية قوي الحضور، وجهة معتمدة في مجال الاستشارات والدراسات العربية لدى معظم الشركات والحكومات الغربية.

ومثل موجات المد الطوفاني المعروف بالتسونامي يرى بصبوص أن تحولات ما بات يسمى الربيع العربي لها هي أيضاً أسباب عميقة وبعيدة، وجذور بنيوية تتأسس في منظومات الحكم في البلدان الخمسة التي اجتاحها هذا المد، وهذا ما يقتضي تفكيك وتشريح كثير من البنيات والعلاقات والمؤسسات في عهد النظم المنهارة السابقة لضرورة هذا تحليليّاً وإجرائيّاً على طريق فهم ما جرى ويجري الآن. ولذلك سعى بصبوص في فصول كتابه المخصصة لكل ساحة عربية على حدة لجعل خصوصياتها وتناقضات نظامها السابق تبدو جلية وفي متناول الفهم، من خلال إبراز العوامل التي جعلت استمرار ما كان قائماً أمراً مستحيلاً لأسباب ذاتية بحكم كون كل واحد من تلك النظم حافلاً بأسباب سقوطه وانهياره الذاتي، وما فعلته موجات الربيع العربي هو أنها أظهرت تلك التناقضات وسرعت من تعبيرها عن نفسها على نحو أدى حتى الآن لسقوط نظم تونس ومصر وليبيا، وجزئيّاً النظام اليمني، في حين ما زال مخاض المواجهة بين النظام السوري ومعارضيه في ذروة التشنج والتعسر.

 

ويرى الكاتب أن ثمة سمات مشتركة بين مختلف نظم دول الربيع العربي هي التي أدت إلى جعلها جاهزة سلفاً للسقوط والتغيير ومن هذه السمات: الفساد الشللي، وطول فترات حكم النظم، والفشل الاقتصادي وعدم القدرة على الاستجابة لتحديات التنمية ما أدى إلى تفاقم أحوال الفقر واتساع الطبقات المحرومة من أبسط مقومات الحياة الكريمة، هذا زيادة على ظاهرة "التوريث" في النظم الجمهورية، وتكرار تعديل الدستور في أكثر من جمهورية عربية لضمان بقاء الزعماء في مواقعهم، وفي المجمل تعمق حالة الاحتقان السياسي والحرمان الاقتصادي، بكافة صورهما وأشكالهما. هذا في مقابل تغول المنظومات الأمنية والعسكرية والإعلامية المشخصنة وفائضة الحزبية التي أسسها ورسخها زعماء كالقذافي مثلاً، واستعداد هذه المنظومات لسحق كافة أشكال المعارضة للنظام الجاثم دون أدنى روية أو رحمة.

ويفرد المؤلف بين دفتي كتابه البالغ 375 صفحة عدة مقاربات خاصة بكل ساحة عربية من ساحات دول الربيع، منطلقاً من الحالة التونسية التي يؤرخ فيها للمآل الذي انتهى إليه نظام بن علي من انفصال سياسي وإدراكي عن الواقع القائم في تونس، مسجلاً بشكل خاص حجم النقمة الشعبية على بعض أجهزة النظام، مع تركيز على بعض تشابكات عملية توزيع وصناعة القرار والنفوذ بين هذه الأجهزة والشخصيات القريبة من السلطة. وكذلك مدى عمق علاقة نظامي بن علي في تونس والقذافي في ليبيا. كما يشير بصبوص إلى ما يعتقد أنه مساعٍ بذلتها جماعات تأثير وضغط من فلول النظام السابق لإفشال وإعاقة الحراك والتحول في المرحلة الانتقالية ما بعد بن علي. أما في الحالتين الليبية والسورية فيركز الكاتب على الجوانب السلبية في التوظيف العقائدي والعشائري والطائفي للجيش الذي أعاق، في النهاية، جيشي البلدين عن لعب أي دور إيجابي في عملية التغيير والتحول، في مقابل ما يزعم أنه مسعى من الجيش المصري لإدارة هذا التغيير والتحول من خلال احتواء وتجيير جماعة دور "الإخوان المسلمين" لضمان بقاء تأثير الجيش وحضوره القوي في المشهد السياسي المصري.

وأخيراً لا يغفل الكاتب أيضاً التنبيه إلى الدور المحوري الذي لعبته وسائل الإعلام مثل الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي في تحفيز وتنظيم مجريات الثورات العربية، هذا زيادة على الدور المحوري للشباب الذين يمثلون القاعدة الأعرض لهرم السكان في دول الربيع العربي. ولئن كان الأفق النهائي الذي ستتكشف عنه هذه التحولات، التي اعتبرها بصبوص بمثابة تسونامي عربي جارف، ما زال غير واضح بشكل مؤكد، إلا أن نبرة التفاؤل بإمكانية وقوف الدول المعنية على شرفة مستقبل جديد بديل، أكثر إيجابية وديمقراطية، تطلع أحياناً من فوق السطور، وأحياناً أخرى من تحتها بشكل لا تكاد تخطئه الملاحظة.

حسن ولد المختار

الكتاب: التسونامي العربي

المؤلف: أنطوان بصبوص

الناشر: فايار

تاريخ النشر: 2011

Article original

OBSERVATOIRE DES PAYS ARABES
twitter   |